
منذ مجيئه إلى السلطة اختبر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أنماطا متعددة من محاربة الفساد، ومواجهة التعدي على المال العام.
وقد تطورت أساليب المتابعة منذ إلحاق مفتشية الدولة بالرئاسة، وتفعيل المفتشيات القطاعية، محكمة الحسابات، وتعزيز الترسانة القانونية الخاصة بمواجهة الفساد، وهو تطور توج أخيرا بإصدار قانون السلطة الوطنية لمكافحة الفساد.
تتضمن النصوص القانونية بعض الإجراءات الوقائية، لكنها تركز على المعالجة البعدية.
ومع تطوير ممارسي الفساد آليات تهرب جديدة، ابتدع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني آلية عملية بدأت تطوق الحيل المتجددة، لماكينة الاعتداء على المال العام.
صممت ماكينة هدر المال العام آلية نموذجا من أربع خطوات لإفراغ تنفيذ المشاريع من محتواه، وابتلاع أكبر قدر من التمويلات، تنتهي في النهاية بخسارة المواطن خسارة مزدوجة؛ يتم الاستيلاء على المال، وتنتج أشكال مشاريع تتلاشى بسرعة البرق.
الخطوة الأولى: هدر الوقت.
الخطوة الثانية: الإنجاز بأقل مستويات الجودة.
الخطوة الثالثة: تغيير المقاولات جلودها باستمرار.
تحتاج هذه الخطوات غطاء من الموظفين والمسؤولين المتمالئين؛ لذلك تأتي الخطوة الرابعة؛ وهي إنفاق جزء كبير من فاتورة المشروع على الرشاوى، والعمولات، وهو ما يسهم في تضخيم الفاتورة النهائية، ويضاعف خسارة المواطن.
في مقابل هذا الرباعي الفتاك، استطاع الرئيس غزواني، بالتدريج تصميم آلية من سلسلة إجراءات تجعل الميدان حكما بين المقاول والدولة، وليس مجرد الأوراق والملفات، والإفادات الموقعة..
الإجراء الأول: توزيع مدة إنجاز المشروع إلى فترات زمنية، مقابل كل فترة مرحلة من الإنجاز، وذلك تفاديا لمفاجأة الجهة بعد نهاية الفترة المخصصة لإنجاز المشروع بأن المقاول لم يقدم خطوة، وما يعنيه ذلك من هدر للزمن، وبحث عن حلول ترقيعية.
الإجراء الثاني: ربط الغرامات بالمراحل الزمنية، وليس بالمهمة النهائية لإنجاز المشروع.
يقتضي الإجراءان السابقان أن المقاول إذا تأخر في إنجاز مرحلة من المراحل سيواجه العقوبة المترتبة على تأخره، ولن ينفعه التذرع بأنه سيكمل المشروع في الوقت الكلي. كما يعنيان أن رب العمل (الجهة الحكومية) ستكتشف مبكرا مؤشرات عجز المقاول، وتتخذ قرارها وما زال عندها من الوقت ما يكفي لتدارك الاختلالات.
الإجراء الثالث: التصنيف الصارم للشركات، وذلك باعتماد تنقيط يحدد لكل فئة من الشركات سقفا للصفقات التي يمكن أن تحصل عليها، وهو إجراء مصمم لتفادي إعطاء مقاول مشروعا يفوق طاقته العملية، وبالتالي الحكم على المشروع بالفشل، وإرغام المقاول عن حلول بديلة مثل توزيع الرشاوى، وإعلان الإفلاس.. واللجوء إلى الضغوط التقليدية..
يتيح التصنيف الصارم للشركات ميزة أخرى وهي التنافس البناء؛ وذلك لأن ترقية الشركة من فئة إلى فئة يتطلب التزاما من هذه الشركة، وهو ما يعني أن بناء اسم الشركة وسمعتها يتم بشكل تدريجي، وهذا سيحقق عدالة بين المقاولين، ويعطي الجادين منهم ميزة تفضيلية..
الإجراء الرابع: فرز اللائحة السوداء الذي ألزمت الحكومة مختلف قطاعاتها بوضع آلية لمتابعته، في تعميم صدر مؤخراً عن الوزير الأول، تفعيلا للنصوص القانونية الناظمة لمجال الصفقات العمومية.
وهو إجراء أثبت فعاليته، بعد أن أصبحت الشركات تخشى على فقدان رصيد نقاطها الذي راكمته على مدى سني عمرها، وبالتالي تحول إتقان العمل وإنجازه في الآجال إلى رأس مال مواز لرأس المال المادي تسعى للمحافظة عليه، بل إنه في بعض الأحيان أهم من رأس المال المادي، وفي كل الأحيان أهم من الأرباح..
الإجراء الخامس: توفير مستحقات الشركات في الوقت المحدد قانونا والالتزام المالي التام من طرف الجهات الحكومية.
مجموع هذه الإجراءات جعل اللجوء إلى الرشاوى غير ذي جدوى؛ فإذا كانت الرشوة لن تؤخر عنك أجل إنجاز مشروع، ولن تمنحك فسحة من الزمن للتهرب من الالتزام، وإذا كنت لا تحتاجها للحصول على مخصصاتك المالية، ولن تفيدك في ترفيع شركتك من فئة إلى أخرى، ولن تفيدك في إدخال شركتك الجديدة إلى جانب الشركات الكبرى، فلماذا تدفعها؟
سيظل بعض المقاولين يعيشون حالة نفسية شبيهة بحياة ما بعد الصدمة، فلن يصدقوا أن بإمكانهم الحصول على مخصصاتهم، وتحقيق نقاط لمقاولاتهم دون رشوة فلان أو علان، وسيظل بعض المسؤولين يحاولون تنمية هذا الشعور حتى يستمر تدفق الرشاوى، ولكنها كلها حالات مؤقتة، وسيعرف المقاولون أنهم يخسرون المبالغ التي يدفعون دون عائد، وساعتها ستبدأ المشاريع في التحرك بوتيرة أسرع، وأفضل.. ومع الوقت تكبر كرة الثلج..
وسيعمل سوس الفساد على تطوير آليات عمل جديدة، يطور معها معاونو الرئيس غزواني إجراءات جديدة، حتى نصل إلى مرحلة تمتلك فيها الدولة زمام المبادرة، ويقبع الفاسدون في موقع ردة الفعل. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
عبد الفتاح محمد حبيب