غزواني.. وتصغر في عين العظيم

غزواني.. وتصغر في عين العظيم

بواسطة Ahmed

بين الفينة والأخرى تأخذ بعض قرارات، وتحركات الرئيس محمد ولد الغزواني زخما استثنائيا، وينظر إليها كسابقة في تاريخ البلد، لكنها تمر على الرئيس ومقربيه، والعارفين به معرفة دقيقة، بدون الزخم الذي يعطيها إياه الشارع العام، والمراقبون.

 

وحين تتاح الفرصة للرئيس لا يتحدث عن ذلك الحدث الذي كان استثنائيا وقت حدوثه؛ هذا الرجل الذي يحكم موريتانيا منذ ست سنوات يراها بلدا رياديا يستحق موقعا قياديا في العالم، لذلك تصغر في عينيه عظائم ما يخطط له، وينفذ. إنه تماما كما قال المتنبي "وتصغر في عين العظيم العظائم..".

 

لكثرة القرارات الاستثنائية والمواقف الاستثنائية، بات الاستثناء قاعدة في بلاد لم يعتد سكانها، ولا صناع القرار فيها، مواقف وقرارات وإنجازات من حجم ما يجترحه الرئيس غزواني.

 

موقع غزواني هذا المساء من الطاولة التي جلس على طرفها المقابل "سيد العالم"، وكونه الأول في المتحدثين، والأطول وقتا، رغم وجود قادة بلدان إفريقية أكبر حجما، وأرسخ في تاريخ العلاقات بالولايات المتحدة، قدما، رسائل عميقة في قصر الرئاسة ببلاد لا تترك للصدف شيئا، حتى النكات التي يطلقها رؤساؤها تكون معدة، ومكتوبة، وذات مغزى.

 

يظن من لا ينظرون إلى السياقات أن اختيار الرئيس غزواني، الذي يقود بلدا ساكنته خمسة ملايين، لحضور هذه القمة الاستثنائية، ضمن عدد محدود من رؤساء القارة، جاء طفرة، أو ربما صدفة، لكن الذي ينظر بتمعن لمؤشر تصاعد العلاقات بين موريتانيا والولايات المتحدة، منذ العام ٢٠١٩، سيدرك أن هذا الحضور تتويج لمسار من الثقة المتبادلة، وتكريس لمكانة باتت موريتانيا تحتلها في الأجندة العالمية.

 

لقد كان الرئيس غزواني أول رئيس موريتاني، منذ الراحل المختار ولد داداه،  يستقبل في زيارة عمل بالعاصمة واشنطن قبل حوالي أربع سنوات، على عهد الرئيس الديمقراطي جو بايدن، واستقباله اليوم من طرف نقيض جمهوري، إشارة إلى أن العلاقة ارتقت لتصبح علاقة بدولة الولايات المتحدة، وليست مجرد نقطة على أجندة الديمقراطيين، أو جزءا من ميلهم للتعاطي مع ملفات العالم الثالث.

 

ليس سرا أن الرئيس ترمب بنى برنامجه على معادلة اقتصادية تقترب من أن تكون صرفة، وتصريحه قبل لقائه بالقادة الأفارقة، بأنه يريد تقوية العلاقة مع الدول الإفريقية على أساس الشراكة التجارية، وليس من خلال المساعدات، يصب في ترسيخ هذا التوجه.

 

وعندما يتحدث الرئيس غزواني عن الفرص الاستثمارية في بلادنا، فهو يتناغم مع هذا التوجه، الذي ينظر إلى موريتانيا، وإفريقيا، كشريك، لا كمتسول مساعدات، أو بياعة مواقف.

 

المعادلات الدقيقة التي بنى عليها الرئيس غزواني سياسة موريتانيا الخارجية، فرضت لبلادنا احتراما، جعل العالم يتعامل معها "كما هي"لا "كما يريدها"؛ فهذا البلد الصغير الذي وثق أخيرا بنفسه وبقدراته، استطاع أن يقنع الجميع بأن لهم موقعا، ومنفعة في علاقات متوازنة معه؛ فالصين وروسيا، لديهما مصالح اقتصادية، وأمنية في التعاطي مع بلد مستقر في إقليم مضطرب، والولايات المتحدة، وأوروبا وحلف شمال الأطلسي، لديهم مصالح اقتصادية، وأمنية واستراتيجية مع هذا البلد الصغير الواثق من نفسه، ذي المستقبل الواعد في ملفات الطاقة، والتعدين، والزراعة، والصيد..

 

وفرقاء القارة، والمحيط، يدركون أن تنازل الكبار عن الاصطفاف، وتعاملهم مع البلد في ظل احترام سيادته في قراراته، والتزامه باستراتيجية الحياد الإيجابي في الصراعات، والعلاقات المتوازنة، على قاعدة المبادئ الكونية، ومصالح البلد= تنازل هؤلاء الكبار، يعني أن على القوى الإقليمية، وفرقاء القارة، أن يبحثوا عن مسار للمصالح، دون طمع باستمالة موريتانيا وقيادتها إلى مواقف لا تمليها مصالح البلد، ومبادئ السلم والأمن الدوليين.

 

نجاح زيارة العمل الثانية للرئيس غزواني إلى الولايات المتحدة، واختيار موريتانيا كشريك ضمن شركاء الولايات المتحدة في القارة، يفرض على قوى اقتصادية أخرى أن تبحث لها عن مستويات شراكة جديدة، فهذا العملاق الاقتصادي لا تمكن منافسته باستثمارات تقليدية محتشمة، وإنما بمشاريع عملاقة، ستنعكس بسرعة وإيجابية على البلد ومكانته الاقتصادية.

 

الأهم أن هذا النمط من إدارة العلاقات سيجعل الجميع يحرص على استقرار هذا البلد، وأمنه، وسيتحول إلى جزء من منظومة الأمن القومي العالمي، وسيتعزز رأيه في الملفات الإقليمية والعالمية، وسيتعزز بالتالي استقلاله؛ سيجني خيرات الآخرين، ويتجنب مخاطرهم، وذلك قصارى ما يمكن أن يصل إليه رشّد القيادة، وحكمة السياسة.

 

موريتانيا اليوم لا تشبه أي موريتانيا رأيناها من قبل، ويعود ذلك، بعد مشيئة الله، إلى شيء واحد؛ بصيرة قائد، صنعت رؤية، فصاغت استراتيجية، نفذت، فآتت أكلها.