غزواني في بْنَيْنعجي.. الانتصار الاستراتيجي على العطش

غزواني في بْنَيْنعجي.. الانتصار الاستراتيجي على العطش

بواسطة Ahmed

ذات عشية من صيف العام ٢٠٢٥ حطت في مطار نواكشوط طائرة هي الأضخم التي تصل نواكشوط منذ نشأة مطاراتها الدولية. وفي ظلام الليل صعدت فرقة الجمارك لفحص المعدات الضخمة التي تنقلها الطائرة، بعد خروج عناصر الجمارك، باشرت الرافعات نقل المعدات الضخمة من الطائرة مباشرة إلى الشاحنات الرابضة في مهبط الطائرات بمطار أم 
التونسي.

كان صعود عناصر الجمارك إجراء استثنائيا لكسب الوقت، وعدم التورط في إنزال المعدات إلى الأرض، ثم نقلها لاحقا إلى الشاحنات، وكان مجرد واحد من سلسلة من الإجراءات الاستثنائية التي واكبت بها سلطات نواكشوط تركيب منشأة استثنائية، لحل أزمة استثنائية.
قطع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني اليوم الاثنين ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٥ الشريط الرمزي إيذانا بتشغيل منشأة معالجة ارتفاع منسوب الطين في مياه آفطوط الساحلي، ووضع حجر الأساس لمنشأة تصفية أخرى مكافئة للمنشأة الأصلية التي كانت تسقي العاصمة وبعض السكان في ولاية الترارزه.

كانت المنشأة الأولى قد بدأت العمل منذ منتصف أغسطس الماضي، منهية أسبوعين من القلق والتوتر في العاصمة نواكشوط، بعد أن بلغ منسوب الطين (الطمي) في المياه المتدفقة إلى المصفاة الرئيسية في آفطوط الساحلي أرقاما قياسية، اقترتب من سقف الأربعة آلاف، وارتفعت معها نسبة الضغط على سلطات عاصمة مهددة بأزمة عطش، لا يمكن معرفة مآلاتها.

حين قطع الرئيس غزواني الشريط، ووضع حجر الأساس كان يضع خطا تحت واحد من أهم معالم استراتيجية حُكْمِه التنموية، هو ثنائية معالجة المشاكل بالحلول الآنية، والشروع في الحلول الاستراتيجية.

وضعت المنشأة الأولى خلف ظهر الرئيس محمد ولد الغزواني، أزمة كانت تعود كل سنة مع ارتفاع منسوب الطين (الطمي) في مياه النهر، ورسمت اللبنة الأولى في المنشأة الثانية الطريق السريع نحو إنهاء عطش العاصمة لعقود قادمة.

*الطمي أو الطين.. قصة نجاح* 
خلال السنوات الثلاث الماضية تصاعدت بشكل مخيف مشكلة ارتفاع منسوب الطين في المياه القادمة من النهر إلى منشأة التصفية في بْنَيْنعجي، ما جعل إنتاج المصفاة يتراجع إلى أقل من النصف بكثير.

تنتج المنشأة يوميا مائة وعشرة آلاف متر معكب من الماء كحد أقصى تتدفق باتجاه العاصمة نواكشوط، وفي فترات تخثر المياه بالطين تتناقص الكمية إلى حوالي ستين ألفا، وقد وصل انخفاض التدفق هذا العام إلى ٤٥ ألفا فقط، هي المصدر الرئيس لشراب عاصمة تحتاج يوميا أكثر من  ٢٠٠ ألف متر مكعب من الماء، وتصلها من بحيرة إديني حوالي ستين ألفا.

المحصلة، إذن، هي أن العاصمة تحصل على أقل من نصف حاجتها من الماء في فترة الحر، أي فترة الاحتياج المضاعف إلى الماء. الماء حاجة نفسية أولا، فالعلم بانعدامه، أقوى أثرا من الانعدام نفسه.

في العام ٢٠٢٤، اتضح أن أزمة الطين آخذة في التصاعد، ووضع الملف على مكتب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وقد خلص التقييم النهائي إلى أن المنشأة الأصلية في آفطوط الساحلي، غير معدة في الأصل لاستقبال أي نسبة من الطين في الماء.

استُدعيتْ بأمر من الرئيس غزواني الخبرة المغربية ذات التاريخ العريق في معالجة السدود، ومشاكل المياه، لكنها لم تجد في سجلها سابقة في التعامل مع مثل هذه الحالة، فتم اللجوء إلى شركات أوروبية رائدة في المعالجة، وقدمت عرضا ببناء منشأة للتغلب على الأزمة في سنتين، كحد أدنى. ولم يكن في الوسع انتظار سنتين للقضاء على المشكلة بالنسبة لموريتانيا، لا بد من حل قبل قدوم خريف ٢٠٢٥. كان هذا هو القرار الرئاسي.

وفي ثنايا التنقيب والبحث، والاتصالات التي لا تهدأ، ولا يشغل الرئيس شاغل عن متابعتها، تقدمت الشركة الصينية بعرض بإنهاء المنشأة في المدة المطلوبة، وجاء القرار الرئاسي بالموافقة بعد المراجعات الضرورية، للتأكد من مصداقية الشركة، وإمكاناتها. وفي شهر ديسمبر ٢٠٢٤، وقع العقد، مع شركة "سينو هيدرو" وفي الخامس من أغسطس ٢٠٢٥ استلمت المنشأة وقد بدأت تعمل بكامل طاقتها التي تصل إلى معالجة ٢٤٠ ألف متر كعب في اليوم.

لقد وفى الصينيون بالتزاماتهم التي كانت تتم متابعتها من أعلى سلطة في الدولة الموريتانية؛ كان الرئيس غزواني يتلقى التقارير والمعلومات والشروح بشكل آني، وفي هاتفه الشخصي، حسب أحد المقربين منه، تراكمت عشرات الصور والفيديوهات، والأوراق عن عمل الفرق الصينية، ومواكبتها من الطواقم الموريتانية؛ تضمنت الصور لقطات من المعدات، والأبنية بعد تركيبها، ومستويات التصفية في المياه، إضافة إلى لقطات جوية للمنشأة في كل مراحل العمل حتى اكتمال بنائها.

خلال سبعة شهور، وعلى مساحة تبلغ ٢٤٠٠ متر مكعب، ركب الصينيون ١٥٠٠ طن من الحديد المطوع، وأكثر من ١٦٠٠ طن من الاسمنت المسلح، بارتفاع ثمانية أمتار. إنها منشأة ضخمة تشبه مربعا من الأبنية الاسمنتية عالية الارتفاع.

ستة أحواض للترسيب، ومضخات ضخمة، وعشرات الأجهزة الكبيرة والصغيرة هي محتويات المنشأة التي توازي في ضخامتها المنشأة الأصلية في بْنَيْنعجي، أنهت قصة الطمي، وأزمات العطش التي كان سكان العاصمة على موعد معها كل خريف.

*آفطوط آخر..*
لا يبدو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على استعداد لإنهاء حربه مع عطش العاصمة دون نصر كامل؛ فمع انتهاء أزمة الطين، قرر البدء في المشروع الاستراتيجي الآخر، وهو بناء منشأة مماثلة للمنشأة الرئيسية في آفطوط الساحلي، تمتلك نفس قدرة المعالجة التي تمتلكها المنشأة التي تسقي العاصمة الآن؛ فخلال أربعة وعشرين شهرا ستكون القدرة الإنتاجية لآفطوط الساحلي قد تضاعفت، مع انتهاء مخاطر تأثير الطمي(الطين) على الكميات المتدفقة إلى العاصمة.

وقبل ذلك باثني عشر شهرا، أو تزيد، سيكون منسوب المياه القادمة من بحيرة إديني قد وصل إلى ١٠٠ ألف متر مكعب من الماء الزلال تنساب يوميا عبر الأنابيب إلى العاصمة نواكشوط. تسابق الشركة المنفذة للمشروع الزمن في الحفر للأنابيب بموازاة طريق الأمل، وقد وصل الحفر مشارف العاصمة.

ومع نهاية هذا المشروع ستصل كميات المياه المتدفقة إلى العاصمة نواكشوط ٣٢٥ ألف متر مكعب يوميا، بدل ١٤٠ لتر مكعب سنة ٢٠٢٠.

هذا في ظل اكتمال دراسة مشروع محطة كبرى لتحلية مياه البحر، الذي تجري المفاوضات على قدم وساق لتوقيع اتفاق تنفيذه.

ومضاعفة إنتاج مشروع آفطوط الشرقي (المرحلة٢) ثلاث مرات (من 5000 متر مكعب إلى 15000 متر مكعب).

وقبل حوالي شهرين دشن الرئيس غزواني من مدينة نواذيبو توسعة محطة التحلية ليزيد إنتاجها بخمسة آلاف متر مكعب من الماء يوميا، تنضاف إلى تسعة آلاف( ٩ ) متر مكعب؛ ما سيعني تغطية حاجة المدينة من المياه طيلة السنوات الخمس القادمة.

هذا علاوة على حفر مئات الآبار الارتوازية، ومشروع سقاية مدينة كيفه من مياه النهر، وزيادة إنتاج آفطوط الشرقي بضعفين (١٥ ألفا، بدل ٥ آلاف)، ومشروع سقاية مدينة كيفه من مياه النهر، وبرمجة ٩٥٠ بئرا ارتوازية في برنامج تزويد مدن الداخل بالخدمات الأساسية.

باختصار؛ يصر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، على كتابة السطر الأخير في حرب موريتانيا الاستراتيجية على العطش قبل نهاية مأموريته الثانية، ليكون بذلك الرئيس الذي وفر لكل موريتاني عصب الحياة، في بيته، ومزرعته.


عبد الله حبيب الله